قال الإمام القرطبي رحمه الله :
[ومن فصاحة القرآن أن الله تعالى جل ذكره، ذكر في آية واحدة أمرين، ونهيين ، وخبريين وبشارتين وهو قوله تعالى:{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (سورة القصص:7) وكذلك فاتحة سورة المائدة : أمر بالوفاء ونهى عن النكث، وحلل تحليلا عاما، ثم استثنى استثناء بعد استثناء ثم أخبر عن حكمته وقدرته،وذلك مما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه، وأنبأ سبحانه عن الموت، وحسرة الفوت، والدار الآخلرة ثوابها وعقابها، وفوز الفائزين، وتردي المجرمين، والتحذير من الاغتراربالدنيا، ووصفها بالقلةبالإضافة إلى دار البقاء بقوله تعالى:{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (سورة آل عمران:185).
وأنبأ أيضا عن قصص الأولين والآخرين ومآل المترفين، وعواقب المهلكين، في شطر آية وذلك في قوله تعالى:{ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا}(سورة العنكبوت:40)
وأنبأنا جل وعز عن أمر السفينة وإجرائها وإهلاك الكفرة، واستقرارالسفينة واستوائها، وتوجيه أوامر التسخير إلى الأرض والسماء بقوله عزوجل:{ وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا }إلى قوله{وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }(سورة هود:44) إلى غير ذلك.
فلما عجزت قريش عن الإتيان بمثله وقالت إن النبي صلى الله عليه وسلم تقوله؛ أنزل الله تعالى:{ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿33﴾ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ }(سورة الطور:33ـ34) ثم أنزل تعجيزا أبلغ من ذلك فقال:{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ }(سورة هود:13)فلما عجزوا حطهم عن هذا المقدار، إلى مثل سورة من السور القصار؛فقال جل ذكره:{ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ }(سورة البقرة:23) فأحفحموا عن الجواب، وتقطعت بهم الأسباب، وعدلوا إلى الحروب والعناد، وآثروا سبي الحريم والأولاد؛ولو قدروا على المعارضة لكان أهون كثيرا،وأبلغ في الحجة وأشد تأثيرا، هذا مع كونهم أرباب البلاغة واللحن، وعنهم تؤخذ الفصاحة واللسن.
فبلاغة القرآن في اعلى طبقات الإحسان،وأرفع درجات الإيجاز والبيان، بل تجاوزت حد الإحسان والإجادة إلى حد الإرباء والزيادة.
هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما أوتي من جوامع الكلم، واختص به من غرائب الحكم ، إذا تأملت قوله صلى الله عليه وسلم في صفة الجنان وإن كان في نهاية الإحسان، وجدته منحطا عنم رتبة القرآن وذلك في قوله عليه السلام: « فيها مالا عين رات ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»
فأين ذلك من قوله عز وجل:{ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ}(سورة الزخرف:71) وقوله:{ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ }(سورة السجدة:17) هذا أعدل وزنا، وأحسن تركيبا وأعذب لفظا ، وأقل حروفا، على أنه لا يعتبر إلا في مقدار سورة أو أطول آية، لأن الكلام كلما طال اتسع فيه مجال المتصرف، وضاق المقال على القاصر المتكلف، وبهذا قامت الحجة على العرب، إذا كانوا أرباب الفصاحة، ومظنة المعارضة، كما قامت الحجة في معجزة عيسى عليه السلام على الأطباء، ومعجزة موسى عليه السلام على السحرة، فإن الله سبحانه إنما جعل معجزات الأنبياء عليهم السلام بالوجه الشهير أبرع ما يكون في زمان النبي الذي أراد إظهاره ، فكان السحر في زمان موسى عليه السلام قد انتهى إلى غايته وكذلك الطب في زمن عيسى عليه السلام، والفصاحة في زمن محمد صلى الله عليه وسلم ] (1/66ـ67)
0 التعليقات:
إرسال تعليق